سورة النساء - تفسير روائع البيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
[4] وسائل معالجة الشقاق بين الزوجين:
التحليل اللفظي:
{قوامون}: قوّام: صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته، فالرجل قوام على امرأته كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي، والحفظ والصيانة.
{قانتات}: أصل القنوت دوام الطاعة، ومنه القنوت في الصلاة والمراد أنهن مطيعات لله ولأزواجهن.
{نُشُوزَهُنَّ}: عصيانهن وترفعهن عن طاعتكم، وأصل النشز المكان المرتفع ومنه تلّ ناشز أي مرتفع.
قال في (اللسان): النشوز يكون بين الزوجين، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النَشَز وهو ما ارتفع من الأرض، ونشز الرجل إذا كان قاعداً فنهض قائماً ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11].
{فَعِظُوهُنَّ}: أي ذكّروهن بما أوجب الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة للأزواج.
{المضاجع}: المراد بهجر المضاجع هجر الفراش والمضاجعة.
قال ابن عباس: الهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها. وقيل: أن يعزل فراشه عن فراشها.
{شِقَاقَ}: الشقاق: الخلاف والعداوة وهو مأخوذ من الشق بمعنى الجانب، لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر بسبب العداوة والمباينة.
{حَكَماً}: الحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين المتنازعين.
{والجار الجنب}: الجار البعيد أو الذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ضد القرابة.
{والصاحب بالجنب}: هو الرفيق في السفر، أو طلب العلم، أو الشريك وقيل: هي الزوجة.
{مُخْتَالاً فَخُوراً}: قال ابن عباس: المختال البطر في مشيته، والفخور المفتخر على الناس بكبره.
المعنى الإجمالي:
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: الرجال لهم درجة الرياسة على النساء، بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير، وخصّهم به من الكسب والإنفاق، فهم يقومون على شؤون النساء كما يقوم الولاة على الرعايا بالحفظ والرعاية وتدبير الشؤون. ثمّ فصّل تعالى حال النساء تحت رياسة الرجل، وذكر أنهن قسمان: قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج، حافظات لأوامر الله، قائمات بما عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة، وأموال أزواجهن عن التبذير في غيبة الرجال، فهنّ عفيفات، أمينات، فاضلات.
وأما القسم الثاني وهنّ النساء الناشزات المتمردات المترفعات على أزواجهن، اللواتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج، فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن طريق النصح والإرشاد، فإن لم يجد الوعظ والتذكير فعليكم بهجرهن في الفراش مع الإعراض والصد، فلا تكلموهن ولا تقربوهن، فإذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبّرح، ضرباً رفيقاً يؤلم ولا يؤذي، فإن أطعنكم فلا تلتمسوا طريقاً لإيذائهن، فإن الله تعالى العلي الكبير أعلى منكم وأكبر، وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن.
ثمّ بيّن تعالى حالةً أخرى، وهي ما إذا كان النفور لا من الزوجة فحسب بل من الزوجين، فأمر بإرسال (حكمين) عدلين، واحد من أقربائها والثاني من أقرباء الزوج، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة، إن رأيا التوفيق وفّقا، وإن رأيا التفريق فرّقا، فإذا كانت النوايا صحيحة، والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن سعيهما الوفاق والألفة بين الزوجين، وما شرعه الله إنما جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير.
ثم ختم تعالى هذه الآيات بوجوب عبادته تعالى وعدم الإشراك به، وبالإحسان إلى الوالدين، وإلى الأقرباء واليتامى والمساكين، ومن له حق الجوار من الأقارب والأباعد.
سبب النزول:
نزلت الآية الكريمة في (سعد بن الربيع) مع امرأته (حبيبة بنت زيد) وكان سعد من النقباء وهما من الأنصار، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتقتصّ من زوجها» فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردنا أمراً، وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير»ورفع القصاص.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: علّل تعالى قوامة الرجال على النساء بتعليلين:
أحدهما: وهبي، والآخر كسبي، وأورد العبارة بصيغة المبالغة {قوامون عَلَى النسآء}، للإشارة إلى كامل الرئاسة والولاية عليهن كما يقوم الولاة على الرعايا، فلهم حق الأمر، والنهي، والتدبير والتأديب، وعليهم كامل المسؤولية في الحفظ والرعاية والصيانة، وهذا هو السر في مجيء الجملة اسمية.
اللطيفة الثانية: قال صاحب الكشاف: ذكروا في فضل الرجال أموراً منها: العقل، والحزم، والعزم، والقوة، وأن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والشهادة في الحدود، والقصاص، والزيادة في الميراث، والولاية في النكاح، وإليهم الانتساب، وغير ذلك.
اللطيفة الثالثة: ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ولو قال بما فضلهم عليهن أو قال بتفضيلهم عليهن لكان أوجز وأخصر، ولكنّ التعبير يورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة، وهي إفادة أن المرأة من الرجل، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته، ورأسه أشرف من يده، فالكل يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر. ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم، والدين، والعمل، وكما يقول الشاعر:
ولو كان النساء كمن ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال
وبهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز.
اللطيفة الرابعة: لم يذكر الله تعالى في الآية إلاّ (الإصلاح) ولم يذكر ما يقابله وهو (التفريق) بين الزوجين، وفي ذلك لطيفة دقيقة، وإرشاد من الله تعالى للحكمين إلى أنه ينبغي أن لا يدَّخراً وسعاً في الإصلاح، فإن في التفريق خراب البيوت، وفي التوفيق الألفة والمودة والرحمة، وغرضُ الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام.
اللطيفة الخامسة: قال الزمخشري: وإنما كان الحكمان من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإليهم تسكن نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض، وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته، وما يزويانه عن الأجانب، ولا يحبان أن يطلعوا عليه.
اللطيفة السادسة: ذكر الشعبي أن شريحاً تزوج امرأة من بني تميم يقال لها (زينب) فلما تزوجها ندم حتى أراد أن يرسل إليها بطلاقها، ثم قال: لا أعجل حتى يجاء بها، فلما جيء بها تشهّدت ثم قالت: أما بعد فقد نزلنا منزلاً لا ندري متى نظعن منه، فانظر الذي تكره، هل تكره زيارة الأخْتان؟ فقلت: إني شيخ كبير لا أكره المرافقة، وإني لأكره ملال الأخْتان، قال: فما شرطتُ شيئاً إلاّ وفت به، فأقامت سنة ثم جئت يوماً ومعها في الحَجَلة إنس، فقلت: إنّا لله، فقالت: أبا أمية إنها أمي، فسلّم عليها فقالت: انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها، قال: فصحبتني ثم هلكت قبلي، قال: فوددت أني قاسمتها عمري، أو مت أنا وهي في يوم واحد، وأنشد شريح:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم *** فشلّت يميني حين أضرب زينباً
الحكم الأول: ما هي الخطوات التي أرشد إليها الإسلام لمعالجة نشوز المرأة؟
أرشدت الآية الكريمة إلى الطريقة الحكيمة في معالجة نشوز المرأة ودعت إلى الخطوات التالية:
أولاً: النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ}.
ثانياً: الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع}.
ثالثاً: الضرب غير المبرح بسواك ونحوه تأديباً لها، لقوله تعالى: {واضربوهن}.
رابعاً: إذا لم تُجْد كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى: {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ}.
وأما الضرب فقد وضّحه عليه السلام بقوله: «فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبّرح».
قال ابن عباس وعطاء: الضرب غير المبّرح بالسواك، وقال قتادة: ضرباً غير شائن.
وقال العلماء: ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه.
وقد سُئل عليه السلام: ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت».
ومع أن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل لقوله عليه السلام: «ولن يضرب خياركم».
الحكم الثاني: هل هذه العقوبات مشروعة على الترتيب؟
اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟
فقال جماعة من أهل العلم إنها على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، ثم الضرب، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز.
ومنشأ الخلاف بين العلماء اختلافهم في فهم الآية، فمن رأى الترتيب قال إن (الواو) لا تقتضي الترتيب بل هي لمطلق الجمع، فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أياً كانت، وله أن يجمع بينها.
ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ يدل على الترتيب، والآية وردت على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي ثم إلى الأقوى فإنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك جار مجرى التصريح بوجوب الترتيب، فإذا حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد.
أقول: لعل هذا هو الأرجح لظاهر الآية الكريمة والله أعلم.
قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير فقد قال: يعظها فإن هي قبلت وإلاّ هجرها، فإن هي قبلت وإلاّ ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع.
وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك فإنه قال: (يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين).
الحكم الثالث: هل يجوز في الحكمين أن يكونا من غير الأقارب؟
ظاهر الآية أنه يشترط في الحكمين أن يكونا من الأقارب لقوله تعالى: {حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} وأن ذلك على سبيل الوجوب، ولكن العلماء حملوه على وجه الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، لأن فائدة الحكمين التعرف على أحوال الزوجين وإجراء الصلح بينهما، والشهادة على الظالم منهما، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين، طلباً للإصلاح من الأجانب، وأبعد عن التهمة بالميل لأحد الزوجين، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة.
قال الألوسي: وخُصّ الأهل لأنهم أطلب للصلاح، وأعرف بباطن الحال، وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصّبا من الأجانب جاز.
الحكم الرابع: من المخاطب في الآية الكريمة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}.
الخطاب في الآية السابقة للأزواج لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} وهذا من حق الزوج، والخطاب هنا للحكام، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة، وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، بيّن تعالى أنه إذا لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وهو السلطان الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ.
وروي عن السُدّي أن الخطاب للزوجين. وهذا القول مرجوح.
وظاهر الأمر في قوله تعالى: {فابعثوا} أنه للوجوب وبه قال الشافعي رحمه الله، لأنه من باب رفع الظُّلامات وهو من الفروض العامة الواجبة على الولاة.
الحكم الخامس: هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما؟
اختلف الفقهاء في الحكمين هل لهما الجمع والتفريق بدون إذن الزوجين أم ليس لهما تنفيذ أمر بدون إذنهما؟
فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأنهما وكيلان عنهما، ولا بدّ من رضى الزوجين فيما يحكمان به، وهو مروي عن (الحسن البصري) و(قتادة) و(زيد بن أسلم).
وذهب مالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة، فإن رأيا التطليق طلّقا، وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعلا، فهما حاكمان موليان، من قبل الإمام وينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن (علي) و(ابن عباس) و(الشعبي).
وللشافعي في المسألة قولان.
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلٍ من الرأيين.
فالحجة للرأي الأول: أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح {إِن يُرِيدَآ إصلاحا} وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما، ولأنهما وكيلان ولا ينفذ حكمهما إلا برضى الموكل.
والحجة للرأي الثاني: أن الله تعالى سمّى كلاً منهما حكماً {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} والحكم هو الحاكم، ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم سخط.
قال الجصاص: قال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلاّ أن يرضى الزوج، وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما، ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع، ولا على ردّ مهرها، فكذلك بعد بعث الحكمين لا يجوز إلا برضى الزوجين وهو اختيار الطبري.
قال الطبري: وليس للحكمين ولا لواحد منهما الحكم بالفرقة بينهما، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك.
أقول: ولعلّ الرأي الأول هو الأرجح لقوة الدليل وهذا ما اختاره الطبري رحمه الله والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- للزوج حق تأديب زوجته ومنعها من الخروج من المنزل إلا بإذنه.
2- على الزوجة طاعة زوجها في حدود ما أمر الله لا في المعصية.
3- ضرورة التحكيم إذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح من قبل الزوج.
4- على الحكمين أن يبذلا أقصى ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
قضت السنة الكونية وظروف الحكياة الاجتماعية، أن يكون في الأسرة قيّم، يدير شؤونها، ويتعهد أحوالها، وينفق من ماله عليها، لتؤدي رسالتها على أكمل الوجوه، ولتكون نواة للمجتمع الإنساني الذي ينشده الإسلام، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع، وفي فساد الأسرة وخرابها خراب المجتمع.
ولما كان الرجل أقدر على تحمل هذه المسؤولية من المرأة، بما وهبه الله من العقل، وقوة العزيمة والإرادة، وبما كلّفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد، كان هو الأحق بهذه القوامة، التي هي في الحقيقة درجة (مسؤولية وتكليف) لا درجة (تفضيل وتشريف) إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء، وليست للسيطرة والاستعلاء، إذ لا بدّ لكل أمر هام من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة. وقد جعل الله للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير، والحفظ والصيانة، ولعل أخبث ما يتخذه أعداء الإسلام ذريعة للطعن في دين الله، زعمهم أن الإسلام أهان المرأة حين سمح للرجل أن يضربها ويقولون: كيف يسمح الله بضرب النساء، وكيف يحوي كتابه المقدس هذا النص {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن}؟! أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة!!
والجواب: نعم لقد سمح القرآن بضرب المرأة ولكن متى يكون الضرب؟ ولمن يكون؟
إن هذا الأمر علاج، والعلاج إنما يحتاج إليه عند الضرورة، فالمرأة إذا أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، وسارت وراء الشيطان وبقيادته، لا تكف ولا ترعوي عن غيّها وضلالها، فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحالة؟ أيهجرها، أم يطلقها، أم يتركها تصنع ما تشاء؟
لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدواء، أرشد إلى اتخاذ الطرق الحكيمة في معالجة هذا النشوز والعصيان، فأمر بالصبر والأناة، ثم بالوعظ والإرشاد، ثمّ بالهجر في المضاجع، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل فلا بدّ أن نستعمل آخر الأدوية، وكما يقولون في الأمثال: (آخر الدواي الكيّ).
فالضرب بسواك وما أشبهه أقل ضرراً من إيقاع الطلاق عليها، لأن الطلاق هدم لكيان الأسرة، وتمزيق لشملها، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم، كان ارتكاب الأخف حسناً وجميلاً، وكما قيل: (وعند ذكر العمى يستحسن العور).
فالضرب ليس إهانة للمرأة- كما يظنون- وإنما هو طريق من طرق العلاج، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس الشاذة المتمردة، التي لا تفهم الحسنى، ولا ينفع معها الجميل.
العبد يقرع بالعصا *** والحر تكفيه الإشارة
وإن من النساء، بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب، ومن أجل ذلك وضعت العقوبات وفتحت السجون.
يقول السيد رشيد رضا في تفسيره (المنار): وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح، والتبريح الإيذاء الشديد، وقد روى عن ابن عباس تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه أي كالضرب باليد، أو بقصبة صغيرة ونحوها.
ثم قال: يستكبر بعض مقلدة الافرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه، فتجعله وهو رئيس البيت مرءوساً بل محتقراً، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به؟
إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه في حال (فساد البيئة) وغلبة الأخلاق الفاسدة، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة، وصار النساء يعقلن النصيحة، ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء.
أقول: إن أمر الضرب في شريعة الله ليس إلا طريقاً من طرق الإصلاح، وقد روي عن عطاء أنه قال: لا يضربْ زوجه وإن أمرها أو نهاها فلم تطعه، ولكنْ يغضب عليها، وقال عليه السلام: «ولن يضرب خياركم» ومع ذلك فهو علاج في بعض الحالات الشاذَّة {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78].


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
[5] حرمة الصلاة على السكران والجنب:
التحليل اللفظي:
{سكارى}: قال في (اللسان): السّكر نقيض الصحو، وأسكره الشراب، والجمع سُكارى وسَكْرى، شبّه بالنّوْكى، والحمقى، والهلْكَى لزوال عقل السكران.
وقال الراغب: السّكْر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب، وقد يعتري من الغضب والعشق ولذلك قال الشاعر:
سُكْرانِ سُكْرُ هَوى وسكرُ مُدام ***
وأصل السُّكْر من السِّكر وهو سد مجرى الماء، فالبسّكْر ينسد طريق المعرفة، وسكرةُ الموت شدته.
{جُنُباً}: الجنب اسم يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع يقال: رجل جنب، ورجال جنب، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة جنب، لأن جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر.
{عَابِرِي سَبِيلٍ}: العابر من العبور يقال: عبرت نهر والطريق إذا قطعته من الجانب إلى الجانب الآخر، السبيلُ: الطريقُ ويراد يعابر السبيل المسافر، أو الذي يعبر بالمسجد أي يمر به.
{الغآئط}: الغائط المكان المطئن من الأرض، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب منخفضاً من الأرض لغيب عن عيون الناس، ثمّ كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائطاً، فكنّوا به عن الحدث تسمية للشيء باسم مكانه.
{لامستم النسآء}: اللمس حقيقته المس باليد، وإذا أضيف إلى النساء يراد به الجماع، وقد كثر هذا الاستعمال في الغة العرب، والقرآن قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع في آيات عديدة قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] وقال تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} [البقرة: 187].
{فَتَيَمَّمُواْ}: التيمم في اللغة: القصد يقال: تيممته برمحي أي قصدته دون غيره، وأنشد الخليل:
يمّمتُه الرمح شَزْراً ثم قلتُ له *** هذي البسالةُ لا لعبُ الزحاليق
وتيمّم البلدة قصد التوجه إليها قال الشاعر:
وما أدري إذا يمّمتُ أرضاً *** أريدُ الخير أيّهما يليني
وفي الشرع: مسح الوجه واليدين بالتراب بقصد الطهارة، وقد جمع الشاعر المعنيين بقوله:
تيمّمتُكُم لمّا فقدتُ أولي النّهى *** ومن لم يجد (ماءً) تيمَّمَ بالترب
{صَعِيداً طَيِّباً}: قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 8] وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] أي أرضاً ملساء تنزلق عليها الأقدام، وسمي صعيداً لأنه يصعد من الأرض.
قال صاحب (القاموس): الصعيد التراب، ووجه الأرض.
قال ابن قتيبة: ومعنى: {صَعِيداً طَيِّباً} أي تراباً نظيفاً.
{فامسحوا}: قال في (اللسان): المسحُ إمرارك يدك على الشيء تريد إذهابه، كمسحك رأسك من الماء، وجبينك في الرّشح، مسحه مسحاً وتمسَّح منه وبه.
{عَفُوّاً غَفُوراً}: أي مسامحاً لعباده، متجاوزاً عمّا صدر منهم من خطأٍ وتقصير.
المعنى الإجمالي:
نهى الله عباده المؤمنين عن أداء الصلاة في حالة السكر، لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته تعالى بكتابه وذكره ودعائه، وقد كان هذا قبل أن تحرم الخمر، وكان تمهيداً لتحريمه تحريماً باتاً، إذ لا يأمن من شرب الخمر في النهار أن تدركه الصلاة وهو سكران، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال عنهم السكر.
والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا ما تقولون وتقرؤون في صلاتكم، ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلاّ إذا كنتم مسافرين فإذا اغتسلتم فصلوا. وإن كنتم مرضى ويضركم استعمال الماء، أو مسافرين ولم تجدوا الماء، أو أحدثتم ببول أو غائط حدثاً أصغر، أو غشيتم النساء حدثاً أكبر، ولم تجدوا ماءً تتطهرون به، فاقصدوا صعيداً طيباً من وجه الأرض فتطهروا به، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلوا، ذلك رحمة من ربكم وتيسير عليكم، لأن الله يريد بكم اليسر، وكان الله عفواً غفوراً.
سبب النزول:
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال: صنع لنا (عبد الرحمن بن عوف) طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون قال، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الفخر الرازي: فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في المائدة.
وجوه القراءات:
قرأ الجمهور: {أَوْ لامستم النسآء} وقرأ حمزة والكسائي: {لَمَسْتُم النّسَاءَ} بغير ألف.
وجوه الإعراب:
1- قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سكارى} مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير الفاعل في تقربوا.
2- قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً} صعيداً مفعول تيمموا أي قصدوا صعيداً، وقيل منصوب بنزع الخافض أي بصعيد.
3- قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} قال العكبري: الباء زائدة أي امسحوا وجوهكم به.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: ورد التعبير بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} والنهي بهذه الصيغة أبلغ من قوله: لا تصلوا وأنتم سكارى فإذا حرم قربان الصلاة ففعلها وأداوها يكون ممنوعاً من باب أولى فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
قال أبو السعود: وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك، وقيل: المراد النهي عن قربان المساجد ويأباه قوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}.
اللطيفة الثانية: التدرج في تحريم الخمر بهذه الطريقة الحكيمة التي سلكها القرآن الكريم برهان ساطع على عظمة الشريعة الغراء، فإن العرب كانوا يشربون الخمر كما يشرب أحدنا الماء الزلال، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لثقل عليهم تركها، ولما أمكن اقتلاع جذورها من قلوبهم، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (أول ما نزل من القرآن من القرآن آيات من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، فلما ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمرة لقالوا: لا ندع الخمرة أبداً).
اللطيفة الثالثة: التعليل بقوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فيه إشارة لطيفة إلى أن المصلي ينبغي عليه أن يكون خاشعاً في صلاته يعرف ما يقوله من تلاوة، وذكر، وتسبيح، وتمجيد، فقد نهى سبحانه السكران عن الصلاة لأنه فاقد التمييز لا يعرف ماذا قرأ؟ فإذا لم يعرف المصلي المستغرق بهموم الدنيا كم صلى، وماذا قرأ؟ فقد أشبه السكران، ولهذا ورد عن بعضهم تفسير السكر بأنه السكر من النوم والنعاس، وهو صحيح في المعنى ولكنه بعيد في التفسير لا يناسبه سبب النزول.
اللطيفة الرابعة: طريقة القرآن الكريم (الكناية) عمّا لا يحسن التصريح به من الألفاظ، وهذا أدب من آداب القرآن لإرشاد الأمة إلى سلوكه عند تخاطبهم، فقد كنّى عن الحدث بالمجيء من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض يقصده الإنسان لقضاء حاجته تستراً واستخفاءً عن الأبصار، ثم صار حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال، وملامسة النساء كناية عن غشيانهن ومجامعتهن، ولمّا كان لفظ الجماع لا يجمل التصريح به فقد أورده بالكناية {أَوْ لامستم النسآء}.
ففي الآية الكريمة كنايتان وهما من لطيف العبارة ورائع البيان.
اللطيفة الخامسة: قال في (البحر المحيط): وفي الآية تغليب الخطاب، إذ قد اجتمع خطاب وغيبة فالخطاب {كُنْتُمْ مرضى} و{لامستم النسآء} والغيبة قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة لأنه لما كنّى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وهذا من أحسن الملاحظات، وأجمل المخاطبات، ولمّا كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب فتدبر هذا السر الدقيق.
اللطيفة السادسة: روي أن الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وانقطع عقد لعائشة رضي الله عنها، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه وليس معهم ماء، فأغلظ (أبو بكر) على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس معهم ماء؟ فنزلت الآية، فلما صلّوا بالتيمم وأرادوا السير بعثوا الجمل فوجدوا العقد تحته، فقال (أسيد بن حضير) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، يرحمك الله يا عائشة فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً وفرجاً.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: ما المراد من قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى}.
اختلف العلماء في المراد من الصلاة في الآية الكريمة، فذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بها حقيقة الصلاة، وهو مذهب (أبي حنيفة) ومروي عن (علي) و(مجاهد) و(قتادة).
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد مواضع الصلاة وهي المساجد، وأن الكلام على حذف مضاف، وهو مذهب (الشافعي) ومروي عن ابن مسعود، وأنس، سعيد بن المسيب.
استدل الفريق الأول بأنّ الله تعالى قال: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فإنه يدل على أن المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع منه السكر، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة من قراءة، ودعاءٍ، وذكر، يمنع منها السكر، فكان الحمل على ظاهر اللفظ أولى.
واستدل الفريق الثاني بأن القرب والبعد أولى أن يكون في المحسوسات فحمله على المسجد أولى، ولأنّا إذا حملناه على الصلاة لم يصحّ الاستثناء في قوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وإذا قلنا إن المراد به المسجد صح الاستثناء، وكان المراد به النهي عن دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور.
فسرّ الحنفية (عابر السبيل) بأن المراد به المسافر الذي لا يجد الماء فإنه يتيمم ويصّلي، وقد اختار الطبري القول الأول وهو الظاهر المتبادر لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى. ويؤيد ذلك ما ورد في سبب النزول.
قال في (تفسير المنار): والمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد، إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي، وفي التنزيل خاصة: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته.
وثمرة الخلاف بين الفريقين تظهر في حكم شرعي وهو هل يحل للجنب دخول المسجد؟
فعلى الرأي الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة وإنما تثبت الحرمة بالسنة المطهرة كقوله عليه السلام: «فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» وغير ذلك من الأدلة.
وعلى الرأي الثاني تكون الآية نصاً في حرمة دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث.
الحكم الثاني: ما هي الأسباب المبيحة للتيمم؟
ذكرت الآية الكريمة أسباب التيمم وهي أربعة (المرض، السفر، المجيء من الغائط، ملامسة النساء) فالسفر يبيح التيمم عند عدم الماء، والمرض أياً كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط عند عدم الماء، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فهذا القيد راجع إلى الكل، فالغالب في المسافر ألا يجد الماء، والمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم لأنه مع وجود الماء قد لا يستطيع الاستعمال فيكون كالفاقد للماء، فهو كمن يجد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكماً، ويدل عليه ما ورد في السنة المطهرة من حديث جابر رضي الله عنه قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منّا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال».
ويدل عليه أيضاً ما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً».
قال ابن تيمية: في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة.
بقي أنه ما الفائدة إذاً من ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح، كلهم على السوء لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
أجاب المفسّرون عن ذلك بأن المسافر لمّا كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء، وأما المريض فاللفظ يشعر بأن المرض له دخل في السببية والله أعلم.
الحكم الثالث: ما المراد بالملامسة في الآية الكريمة؟
اختلف السلف رضوان الله عليهم في المراد من الملامسة في قوله تعالى: {أَوْ لامستم النسآء} فذهب علي، وابن عباس، والحسن إلى أن المراد به الجماع، وهو مذهب الحنفية. وذهب ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي إلى أن المراد به اللمس باليد، وهو مذهب الشافعية.
قال ابن جرير الطبري: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أَوْ لامستم النسآء} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم روى عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلي)، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: قلتُ: من هي إلاّ أنت؟ فضحكت.
وقد اختلف الفقهاء في مسّ المرأة هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال.
أ- فذهب أبو حنيفة إلى أن مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواءً كان بشهوة أم بغير شهوة.
ب- وذهب الشافعي إلى أن مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوة أم بغير شهوة.
ج- وذهب مالك إلى أن المسّ إن كان بشهوة انتقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض.
دليل الحنفية:
استدل أبو حنيفة بأن المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبّل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ. واستدل أيضاً بما روي عن عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول: أعوذ برضاك من سخطك...
وأما الآية فهي كناية عن الجماع كما نقل عن ابن عباس، واللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلاّ أنه قد عهد في القرآن استعماله بطريق الكناية مثل قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3].
دليل الشافعية:
واستدل الشافعي بظاهر الآية الكريمة فقال: إن اللمس حقيقة في المس باليد، وفي الجماع مجاز أو كناية، والأصل حمل الكلام على حقيقته، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وقد ترجح ذلك بالقراءة الثانية {أو لمستم النساء} فكان حمله على ما قلنا أولى.
قال الإمام ابن رشد في (بداية المجتهد): وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو بالليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة هو الجماع في قوله: {أَوْ لامستم النسآء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد، وينطلق مجازاً على الجماع، وإذا تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز.
وقال الآخرون: إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم (الغائط) الذي هو أدل على الحدث الذي هو مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة.
ثم قال: والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين إلاّ أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازاً لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس.
الترجيح: ولعل هذا الرأي يكون أرجح، لأنّ به يمكن التوفيق بين الآية الكريمة والآثار السابقة، ولأنه قد تعورف عند إضافة المس إلى النساء معنى الجماع، حتى كاد يكون ظاهراً فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع والله أعلم.
الحكم الرابع: ما المراد بالصعيد الطيب في الآية الكريمة؟
اختلف أهل اللغة في معنى الصعيد فقال بعضهم: إنه التراب، وقال بعضهم: إنه وجد الأرض تراباً كان أو غيره، وقال آخرون: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس. وبناءً على هذا الاختلاف اللغوي اختلف الفقهاء فيما يصح به التيمم.
أ- فقال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالتراب وبالحجر وبكل شيء من الأرض ولو لم يكن عليه تراب.
ب- قال الشافعي: بل لا بدّ من التراب الذي يلتصق بيده، فإذا لم يوجد التراب لم يصح التيمم.
حجة أبي حنيفة: احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد ما تصاعد من الأرض فقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} أي اقصدوا أرضاً طاهرة، فوجب أن يكون هذا القدر كافياً، واشترط تلميذه (أبو يوسف) أن يكون المتيمَم به تراباً أو رملاً.
حجة الشافعي: واحتج الشافعي من جهتين: الأول أن الله تعالى أوجب كون الصعيد طيباً، والأرض الطيبة هي التي تُنبت، بدليل قوله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة.
والثاني: أن الآية مطلقة هنا، ومقيدة في سورة المائدة بكلمة (منه) في قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} [المائدة: 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فوجب ألا يصح التيمم إلا بالتراب.
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لا سيما وقد خصصه النبي عليه السلام به في قوله: «التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء».
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- تحريم الصلاة على السكران حال السكر حتى يصحو ويعود إليه رشده.
2- تحريم الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد على الجنب حتى يغتسل.
3- المريض والمسافر والمحدث حدثاً أصغر أو أكبر يجوز لهم التيمم إذا فقدوا الماء.
4- التراب طهور المسلم عند فقد الماء ولو دام ذلك سنين عديدة.
5- التيمم يكون بمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بالتراب الطاهر.


{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
[6] جريمة القتل وجزاؤها في الإسلام:
التحليل اللفظي:
{فَتَحْرِيرُ}: التحرير من الحرية، وهو كما قال الراغب: جعل الإنسان حراً، وإخراج العبد من الرق إلى الحرية يسمى تحريراً، والحر في الأصل: الخالص، وسمي الإنسان حراً لأنه تخلّص مما يكدّر إنسانيته، ومنه قوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] أي مخلصاً للعبادة.
الدية: ما تعطى عوضاً عن دم القتيل إلى وليه، قال في (اللسان): الدية حق القتيل، والهاء عوض عن الواو، تقول: وديتُ القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته.
وفي (التهذيب): ودى فلان فلاناً إذا أدّى ديته إلى وليه، وأصل الدية ودية فحذفت الواو، كما قالوا: شيه من الوشي. وقد خصص الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس، دون ما الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس، دون ما يؤدي في المتلفات وبدل الأطراف.
{مُّسَلَّمَةٌ}: أي مدفوعة ومؤداة إلى أهل القتيل.
{يَصَّدَّقُواْ}: أي يتصدقوا عليهم بالدية فأدغمت التاء في الصاد، والمعنى إلا أن يعفوا ويسقطوا حقهم في الدية، وسمي صدقة لأنه معروف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة».
{مِّيثَاقٌ}: أي عهد وذمة، قال الراغب: الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد.
{ضَرَبْتُمْ}: الضرب له معان: منها الضرب باليد، والعصا، والسيف، ومنها الضرب في الأرض بمعنى السفر، وسمي به لأن المسافر يضرب دابته بالعصا لتسير به، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره.
ومعنى الآية: إذا سافرتم في سبيل الله لجهاد أعدائكم.
{فَتَبَيَّنُواْ}: التبين طلب بيان الأمر، والمراد التأني واجتناب العجلة، ومنه البينة أي تثبتوا وتحققوا قال تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6].
{السلام}: السّلام والسّلْم بمعنى واحد وهو إلقاء السلاح والاستسلام، ومعنى الآية: لا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا.
{عَرَضَ}: سمي متاع الحياة الدنيا عَرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت، وكل شيء يقل لبثه يسمى عرضاً وفي الحديث: «الدنيا عَرضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر».
وفي (اللسان): العَرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها وفي التنزيل: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] وعرض الدنيا ما كان من مال قلّ أو كثر.
{مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}: المغانم جمع مغنم وهو ما يغنمه الإنسان من عدوه، والمراد به هنا الفضل الواسع والرزق الجزيل قال الطبري: المعنى: لا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه.
المعنى الإجمالي:
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: ما كان من شأن المؤمن ولا ينبغي له أن يقدم على قتل مؤمنٍ، إلا إذا وقع هذا القتل خطأ، فإذا حصل ووقع القتل بطريق الخطأ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلّمة إلى أهل القتيل تدفعها عاقلته، إلاّ إذا عفوا عنه وأسقطوا الدية باختيارهم فلا تجب حينئذٍ، وإذا كان المقتول مؤمناً وأهله من أعدائهم فالواجب على قاتله عتق رقبة مؤمنة، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم وأما إذا كان المقتول معاهداً أو ذمياً، فالواجب في قتله كالواجب في قتل المؤمن، دية مسلّمة إلى أهله تكون عوضاً عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى، فمن لم يجد الرقبة التي يحررها فعليه صوم شهرين قمريين متتابعين، توبة من الله على عباده المذنبين وكان الله عليماً بما يصلح الناس حكيماً في تشريعه.
ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن عمداً، وغلّظ في العقوبة لأن جرمه عظيم، ولم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعّد به الكافرين، وهو الخلود في جهنم، واستحقاق غضب الله ولعنته، عدا العذاب الشديد الذي أعده الله له يوم القيامة. وقد ختم الله هذه الآيات الكريمة بأمر المؤمنين إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره، فلم يعلموا هل هو مسلم أم كافر؟ فلا يقدموا على قتله إلا بعد التحقق من كفره، وأمّا إذا استسلم وأظهر الإسلام فلا يحل قتله، طمعاً في متاع الدنيا الزائل، وقد ذكّرهم بأنهم كانوا مشركين كفاراً فمنّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام، وكفى بها نعمة!!
سبب النزول:
1- روي أن (عيّاش بن أبي ربيعة)- وكان أخاً لأبي جهل من أمه- أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه (الحارث بن يزيد) فأتياه، فقال أبو جهل: أليس محمد يأمرك بصلة الرحم؟ انصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك، فرجع فلما دنوا من مكة قيّدوا يديه ورجليه، وجلده أبو جهل مائة جلدة، وجلده الحارث مائة أخرى، فقال للحارث: هذا أخي فمن أنت؟ لله عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك، فلما دخل على أمه حلفت ألا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول، ففعل ثم هاجر بعد ذلك. وأسلم الحارث بن يزيد وهو لا يعلم بإسلامه، فلقيه عياش خالياً فقتله، فلما أُخبر أنه كان مسلماً ندم على فعله، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}.
ب- وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «مرّ رجل من بني سليم ينفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم علينا إلاّ ليتعوذ منا، فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ...}».
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ}، وقرأ حمزة والكسائي: {فتثبتوا} بالثاء.
2- قرأ الجمهور: {لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام} بفتح السين مع الألف، وقرأ نافع وحمزة {السّلم} من غير ألف.
3- قرأ الجمهور: {لَسْتَ مُؤْمِناً} بكسر الميم الثانية وقرأ عكرمة {لست مُؤمناً} بفتح الميم من الأمَان.
وجوه الإعراب:
أولاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً...} أن يقتل في محل رفع اسم كان، ولمؤمن خبره وقوله: {إلاّ خطأً} استثناء منقطع والمعنى: لكن إن قتل خطأً فحكمه كذا، ومثّل له الطبري بقول الشاعر:
من البيضِ لم تَظْعنْ بعيداً ولم تَطَأْ *** على الأرض إلاّ ريط بُرْد مُرحّل
ثانياً قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً} خطأً صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره قتلاً خطأً، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره: قتله خاطئاً.
ثالثاً: قوله تعالى: {تَوْبَةً مِّنَ الله} توبة مفعول لأجله أي شرع لكم ذلك توبة منه.
رابعاً: قوله تعالى: {لَسْتَ مُؤْمِناً} مؤمناً خبر ليس والجملة مقول القول، وجملة (تبتغون عرض الحياة) في محل نصب على الحال من فاعل تقولوا أي لا تقولوا ذلك مبتغين عرض الحياة.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: النفي في مثل هذا الموطن يسمى (نفي الشأن) وهو أبلغ من نفي الفعل كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} [التوبة: 17] فهو استبعاد للفعل بطريق البرهان كأنه يقول: ليس من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن أن يقتل أحداً من أهل الإيمان، إذ لا يتصور أن يصدر منه مثل هذا العفل لأن إيمانه- وهو الحاكم على تصرفه وإرادته- يمنعه من اجتراح القتل عمداً، ولكنه قد يقع منه ذلك خطأً.
اللطيفة الثانية: في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مجاز مرسل علاقته (الجزئية) أطلق الرقبة وقصد به المملوك من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وهو مجاز مشهور.
اللطيفة الثالثة: التعبير بهذا الأسلوب اللطيف {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} وتسمية العفو بالصدقة، فيه حثٌ على فضيلة العفو، وتنبيه الأولياء إلى أنّ عفوهم عن القاتل، وعدم أخذ الدية هو في نفسه صدقة وهو من مكارم الأخلاق التي يرغب فيها الإسلام.
اللطيفة الرابعة: وردت عقوبة قتل المؤمن عمداً في غاية التغليظ والتشديد {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فقد حكمت الآية على القاتل بعقوبات ثلاث:
1- الخلود في جهنم.
2- واستحقاق الغضب واللعنة.
3- والعذاب الشديد الذي أعده الله له في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن» وفي الحديث أيضاً: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله» ولهذا أفتى ابن عباس بعدم قبول توبة القاتل.
قال صاحب (الكشاف): والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس يمنع التوبة، ثم يطمعون في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبةٍ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24]؟
اللطيفة الخامسة: الخلود في جهنم لقاتل المؤمن محمول على من استحلّ قتله، أو المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود بمعنى طول المدة والبقاء قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقياً *** ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
والعرب تقول: خلّد الله ملكه، وتقول: لأخلدّن فلاناً في السجن، مع أنه لا شيء في الدنيا يدوم.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: ما هي أنواع القتل، وفي أيها تجب الكفارة؟
أوجب الله تعالى (القصاص) في القتل في آية البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] وأوجب (الدية والكفارة) في القتل الخطأ في الآية التي معنا، فيعلم أنّ الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد لا الخطأ.
ذهب مالك رحمه الله إلى أن القتل إمّا عمد، وإمّا خطأ، ولا ثالث لهما، لأنه إما أن يقصد القتل فيكون عمداً، أو لا يقصده فيكون خطأ، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ.
وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن القتل على ثلاثة أقسام (عمد، وخطأ، وشبه عمد).
أما العمد: فهو أن يقصد قتله بما يفضي إلى الموت كسيفٍ، أو سكين، أو سلاح، فهذا عمد يجب فيه القود (القصاص) لأنه تعمد قتله بشيء يقتل في الغالب.
وأما الخطأ: فهو ضربان: أحدهما: أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فيصيب مسلماً.
والثاني: أن يظنه مشركاً بأن كان عليه شعار الكفار فيقتله، والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد.
وأما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالباً فيموت فيه، أو يلطمه بيده، أو يضربه بحجر صغير فيموت، فهذا خطأ في القتل وإن كان عمداً في الضرب.
قال القرطبي: وممن أثبت شبه العمد الشعبي، والثوري، وأهل العراق، والشافعي، وروينا ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها، فلا تستباح إلاّ بأمر بيّن لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال لأنه لما كان متردداً بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود، والقتل غير مقصود، فيسقط القَود وتغلّظ الدية، وبمثل هذا جاءت السنة، روى أبو داود من حديث (عبد الله بن عمرو) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها».
حجة الجمهور:
وحجة الجمهور في إثبات (شبه العمد) أن النيات مغيبة عنا لا اطلاع لنا عليها، وإنما الحكم بما ظهر، فمن ضرب آخر بآلة تقتل غالباً حكمنا بأنه عامد، لأن الغالب أن من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالباً كان متردّداً بين العمد والخطأ، فأطلقنا عليه شبه العمد، وهذا بالنسبة إلينا إلا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر، إذ هو في الواقع إمّا عمد، وإمّا خطأ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب، وأشبه الخطأ من جهة أن الآلة لا تقتل غالباً، ولما لم يكن عمداً محضاً سقط القود، ولما لم يكن خطأ محضاً لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلّظة.
واستدلوا بالحديث السابق وبما رواه أحمد، وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: «ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلّظة..» الحديث. الحكم الثاني: ما هو القتل العمد، وما هي عقوبته؟
القتل العمد يوجب القصاص، والحرمان من الميراث، والإثم وهذا باتفاق الفقهاء، أما الكفارة فقد أوجبها الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة لا كفارة عليه وهو مذهب الثوري.
قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى.
وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى، وحيث لم تذكر في العمد فلا كفارة.
قال ابن المنذر: وما قاله أبو حنيفة به نقول، لأن الكفارات عبادات وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضاً يلزمه عباد الله إلا بكتابٍ، أو سنة، أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمداً كفارةً حجةٌ من حيث ذكرت.
وقد اختلفوا في معنى العمد وشبه العمد على أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة:
1- العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه مثل الذبح، أو بكل شيء محدّد أو بالنار وما سوى ذلك من القتل بالعصا أو بحجر صغيراً كان أو كبيراً فهو شبه العمد، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
2- العمد كل قتلٍ من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، بما يقتل مثله في العادة، وشبه العمد ما لا يقتل مثله، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
3- العمد ما كان عمداً في الضرب، والقتل، وشبه العمد ما كان عمداً في الضرب، خطأ في القتل أي ما كان ضرباً لم يقصد به القتل وهذا قول الشافعي رحمه الله.
الترجيح: ما ذهب إليه (أبو حنيفة) رحمه الله من جعل كل قتلٍ بغير الحديد شبه عمد ضعيفٌ، فإن من ضرب رأس إنسان بمثل (حجر الرحى) قتله وادّعى أنه ليس عامداً كان مكابراً، والمصلحة تقضي بالقصاص في مثله، لأن الله شرع القصاص صوناً للأرواح عن الإهدار، وما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد الشافعي هو الأصح والله أعلم.
الحكم الثالث: ما هي شروط الرقبة وعلى مَن تجب؟
أوجب الله في القتل الخطأ أمرين: 1- عتق رقبة مؤمنة. ب- ودية مسلّمة إلى أهله.
فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن: لا تجزئ الرقبة إلاّ إذا صامت وصلّت.
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يجزئ الغلام والصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً.
ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان إحداهما تجزئ، والأخرى لا تجزئ إلا إذا صامت وصلت.
حجة الأولين: أن الله تعالى شرط الإيمان، فلا بدّ من تحققه، والصبي لم يتحقق منه ذلك.
وحجة الجمهور: أن الله تعالى قال: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً} فيدخل فيه الصبي، فكذلك يدخل ف قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}.
قال ابن كثير: والجمهور أنه متى كان مسلماً صح عتقه عن الكفارة سواءً كان صغيراً أو كبيراً.
وقد اتفق الفقهاء على أن الرقبة على القاتل، وأما الدية فهي على العاقلة.
الحكم الرابع: على مَن تجب الدية في القتل الخطأ؟
اتفق الفقهاء على أن الدية على عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة هم عصبته (قرابته من جهة أبيه).
قال في (المغني): ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الخطأ على العاقلة.
وقال ابن كثير: وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله قال الشافعي: لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في (الصحيحين)عن أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها (غرة) عبدٌ أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها».
تنبيه: فإن قيل: كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته والله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ويقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]؟
فالجواب: أن هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره، لأن الدية على القاتل، وتحميل (العاقلة) إيّاها من باب المعاونة والمواساة له، وقد كان هذا معروفاً عند العرب وكانوا يعدونه من مكارم الأخلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، والمعاونة والمواساة والتناصر وتحمل المغارم، كل هذا ممّا يقوّي الألفة ويزيد في المحبة فلذلك أقره الإسلام.
الحكم الخامس: كم هو مقدار الدية في العمد والخطأ؟
اتفق العلماء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة، وهي مائة من الإبل تؤخذ نجوماً على ثلاث سنين وتجب أخماساً لما رواه ابن مسعود قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة.
وأما دية شبه العمد فهي مثلّثة (أربعون خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة) وتجب على العاقلة أيضاً، وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور في قوله، وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد، وتجب على مال القاتل.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد، وأنها في مال الجاني.
وقال ابن الجوزي: والدية للنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الورق (الفضة) اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل مائتا حلة، فهذه دية الذكر الحر المسلم، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك.
وهذا قول جمهور الفقهاء ووافقهم أبو حنيفة في ذلك إلا أنه قال في الفضة عشر آلاف درهم لا تزيد.
الحكم السادس: هل للقاتل عمداً توبة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقالت: نزلت هذه الآية: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ قال: لا، وقرأت عليه الآية التي في [الفرقان: 68] {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ}.
وروى ابن جرير بسنده عن (سالم بن أبي الجعد) قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يجيء يوم القيامة معلّقاً رأسُه بإحدى يديه- إما بيمينه أو بشماله- آخذاً صاحبه بيده الأخرى، تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول: يا رب سل عبدك هذا علام قتلني؟ فما جاء نبيٌ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم».
وذهب الجمهور إلى أن توبة القاتل عمداً مقبولة، واستدلوا على ذلك ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي:
أولاً: إن الكفر أعظم من القتل العمد، فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة عن القتل أولى بالقبول.
ثانياً: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] يدخل فيه القتل وغيره.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق...} إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 68-70] ويه نصٌ في الباب.
رابعاً: حديث الصحيحين: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق... ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
خامساً: حديث مسلم في الشخص الذي قتل مائة نفس.. إلخ.
قال العلامة الشوكاني: والحقّ أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً؟ والله أحكم الحاكمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- سفك دم المؤمن من الكبائر التي توجب الخلود في النار.
2- القتل الخطأ فيه الكفارة والدية وليس فيه القصاص.
3- إذا عفا أهل القتيل سقطت الدية عن القاتل دون الكفارة.
4- الكفارة عتق رقبة مؤمنة فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
5- لا يجوز التعجل بقتل إنسان لمجرد الشبهة.

1 | 2 | 3